التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
معركة شنت إشتيبن واحدة من أشرس وأعنف المعارك على المسلمين، دب فيها الهرج والمرج في الصفوف المسلمة، مما ألحق بهم هزيمة ساحقة بعد أن كان النصر حليفهم، فما
معركة شنت إشتيبن واحدة من معارك الأندلس، التي هُزم فيها المسلمين هزيمة وُصِفتْ بأنَّها ساحقة، وبلغ من روعتها أن امتلأت التلال والسهول والغابات بقتلاهم وأشلائهم.
وضع الأندلس قبيل معركة شنت إشتيبن
كانت إسبانيا النصرانيَّة في بداية عهد عبد الرحمن الناصر تسير قُدمًا في سبيل القوَّة والتوطُّد، وتعمل جاهدةً لانتهاز الفرصة في تلك الفترة التي اضطرمت فيها الأندلس بالفتن، مستغلَّةً في ذلك انشغال عبد الرحمن الناصر بأمر الثورة في النواحي[1]، فوجد عبد الرحمن الناصر نفسه أمام تحالفٍ إسبانيٍّ قويٍّ ضمَّ "سانشو الأول" ملك نافار، و"أردونيو الثاني" ملك ليون وقشتالة[2].
أسباب معركة شنت إشتيبن
ما كاد عبد الرحمن الناصر يعتلي الحُكم حتى بادر "أردونيو الثاني" ملك ليون بالإغارة على الأراضي الإسلاميَّة، واتَّجه أوَّلًا نحو منطقة الغرب وداهم أكثر من مدينة، واضطرمت بينه وبين المسلمين معارك شديدة، فقتَّل وخرَّب وسبى[3]، واتَّبع سياسة الأرض المحروقة؛ فأخذ الغنائم وأحرق المدن والقرى والأرياف[4].
أحداث معركة شنت إشتيبن
ضجَّ المسلمون لهذا البلاء، واستغاثوا بمليكهم أن يُنقذهم من هذا العدوان الصارخ، فسيَّر عبد الرحمن قائده أحمد بن أبي عبدة إلى أرض النصارى في جيشٍ ضخم.
واخترق المسلمون أراضي قشتالة، وزحفوا إلى قلعة "شنت إشتيبن" الواقعة على نهر التاجُه[5]، وهي من أمنع قلاع النصارى على الحدود، وقد ضربوا حولها الحصار الصارم، وفي يوم (14 من ربيع الأول سنة 305هـ= 4 سبتمبر سنة 917م)[6]، دارت بين الطرفين حربٌ صعبةٌ صبر لها الفريقان[7]، وكادت تسقط القلعة في أيدي المسلمين، وفي اللحظات الأخيرة قبل سقوط القلعة ومع انهيار دفاعات حاميتها وفتور مقاومتهم، شاء الله أن يهرع إلى إنجادها "أردونيو" في جموعٍ ضخمةٍ من النصارى[8]، وفجأة تراجع بعضُ المتخاذلين من المسلمين وارتدوا عن مواقعهم وكأننا نرى أحدًا جديدة ممَّا أضرَّ إضرارًا بالغًا بالصفوف التي انكشفت أمام الأعداء[9]، فكانت الخيبة نفسها والهزيمة القاسية ذاتها.
أسباب الهزيمة ونتائج معركة شنت إشتيبن
كان الجيش الإسلامي على الرغم من تفوُّقه في الكثرة مختلَّ النظام، مفكَّك العُرَى، يتألَّف سواده من البربر والمرتزقة الذين لا يُعْتَمد على ولائهم وشجاعتهم، وكانوا يحرصون على غنائمهم أكثر من حرصهم على مقاتلة العدو؛ فهي الدنيا وعدم وضوح الرؤية الشرعية في مقاتلة العدو ما يوصل المسلمون إلى تلك الانتكاسات ولنا في أُحُد عبرة وعظة، ولكنَّ الموعظة للمتقين!
فلمَّا انقضَّ "أردونيو" بقوَّاته على المسلمين، تسلَّلت منهم وحدات كثيرة، وارتدَّت أمام المهاجمين، ودبَّ الهرج إلى صفوف المسلمين.
لكنَّ قائدهم الشجاع "أحمد بن أبي عبدة" فضَّل الموت على الارتداد، فصمد في مكانه في نفرٍ من أشجع ضبَّاطه وجنده، فقُتلوا جميعًا، وهلك معهم عدَّةٌ من أكابر الفقهاء والمجاهدين، وكانت هزيمةً مروعة[10].
كان لذلك الخطب وقعٌ عميقٌ في بلاط قرطبة، وكان عبد الرحمن يعتزم المبادرة إلى غزو ليون بنفسه، لولا أن شغلته عندئذٍ حوادث إفريقيَّة، على أنَّه اضطرَّ غير بعيد أن ينهض لردِّ اعتداء النصارى[11]، أمَّا أردونيو فقد توالت غاراته على الأراضي الإسلاميَّة عقب هزيمة شنت إشتيبن، حتى وفاته سنة 925م[12].
الروايات المختلفة في معركة شنت إشتيبن
تقول الرواية الإسلامية: إنَّ فلول الجيش الإسلامي استطاعت أن ترتدَّ بعتادها ومتاعها سالمةً إلى الأراضي الإسلامية.
لكنَّ الرواية الإسبانيَّة تقول بالعكس: إنَّ هزيمة المسلمين كانت ساحقة، وبلغ من روعتها أن غَصَّتِ سائر التلال والسهول والغابات الممتدَّة جنوبًا من دويرة إلى أنتيسة بقتلاهم وأشلائهم[13].
وعلى الأغلب فإن الحقيقة غالبًا ما تكون وسطًا بين طرفين يحاول كلٌّ منهما إكساب نفسه صفة القوة والنصر فيُغالي المنتصر في انتصاره ويُبالغ في وصف ضعف خصمه ويكثير من عدد قتلاه وكثرة الغنائم المسلوبة؛ أمَّا المنهزم فعلى النقيض من ذلك، وبالطبع ليس هذا من المنهج العلمي -عامةً- أو من المنهجية الصحيحة لدراسة علم التاريخ -خاصةً- في شيء، والمؤكد أن ذلك ليس من أساسيات الرؤية الإسلامية للتاريخ.
ولذلك فالمؤكَّد من خلال دراسة المصادر والروايات أنَّه حدثت هزيمةٌ في صفوف المسلمين من جيش الناصر، وانتصر الإسبان، لكن بدراسة الأحداث بعد تلك المعركة نجد أنَّ الجيش الإسلامي ما زال محتفظًا بقوَّاته الرئيسة، بل حاول بعدها مباشرةً أن ينتقم لهزيمته، فبالتالي فإنَّنا نُرجِّح وجود خسائر ليست بالقليلة لكنَّها لا ترقى إلى مبالغة الإسبان ولا -أيضًا- تهوين المسلمين لها والله أعلم.
[1] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1417هـ= 1997م، 1/ 391.
[2] محمد سهيل طقوش: التاريخ الإسلامي الوجيز، دار النفائس، الطبعة الخامسة، 1432هـ= 2011م، ص241.
[3] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 1/ 392.
[4] طارق سويدان: أطلس الأندلس، شركة الأبداع الفكري، الكويت، الطبعة الأولى، 1426هـ= 205م، ص178.
[5] كانت تُسمى -أيضًا- قلعة "قاشتر مورش". انظر: ابن عذاري المراكشي: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، تحقيق ومراجعة: ج. س. كولان، إِ. ليفي بروفنسال، دار الثقافة، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة، 1983م، 2/ 177.
[6] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 1/ 394، وانظر: ابن عذاري المراكشي: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، 2/ 170.
[7] خليل إبراهيم السامرائي – د. عبد الواحد ذنون طه – د. ناطق صالح مصلوب: تاريخ العرب وحضارتهم في الأندلس، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2000م، ص165، وانظر: ابن عذاري المراكشي: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، 2/ 170.
[8] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 1/ 394، وانظر: ابن عذاري المراكشي: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، 2/ 170.
[9] خليل إبراهيم السامرائي – د. عبد الواحد ذنون طه – د. ناطق صالح مصلوب: تاريخ العرب وحضارتهم في الأندلس، ص165، وانظر: ابن عذاري المراكشي: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، 2/ 170.
[10] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 1/ 394.
[11] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 1/ 395.
[12] راغب السرجاني: قصة الأندلس، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1432هـ= 2011م، 1/ 214.
[13] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 1/ 395.
التعليقات
إرسال تعليقك